فصل: إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فَصْلٌ فِي تَحْقِيقِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ بِمُنْتَهَى الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ:

.إِعْجَازُ الْقُرْآنِ:

قَدْ ثَبَتَ بِالْفِعْلِ، وَتَوَاتَرَ فِيهِ النَّقْلُ، وَحَسْبُكَ مِنْهُ وُجُودُ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَصَاحِفِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا، وَوُجُودُ الْأُلُوفِ مِنْ حُفَّاظِهِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَهِيَ تَحْكِي لَنَا هَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّحَدِّي بِإِعْجَازِهِ، وَلَوْ وُجِدَ لَهُ مُعَارِضٌ أَتَى بِسُورَةٍ مِثْلِهِ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ أَيْضًا، بَلْ لَكَانَتْ فِتْنَةً ارْتَدَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ إِعْجَازُهُ لِمَزَايَا فِيهِ تَعْلُو قُدْرَةَ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا وَحُكْمًا، وَبَيَانًا لِلْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، حَارَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ الضَّرُورَةِ فِي ظُهُورِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ إِعْجَازَهُ بِالصَّرْفَةِ، يَعْنُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَ قُدْرَةَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ عَنِ التَّوَجُّهِ لِمُعَارَضَتِهِ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهَا سَبِيلًا، ثُمَّ تَسَلْسَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ وَاسْتَمَرَّ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا، وَهَذَا رَأْيُ كَسُولٍ أَحَبَّ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ مِنْ عَنَاءِ الْبَحْثِ وَإِجَالَةِ قَدَحِ الْفِكْرِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلِلْبَاحِثِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ كُتِبَتْ فِيهَا فُصُولٌ وَأُلِّفَتْ فِيهَا رَسَائِلُ وَكُتُبٌ، وَقَدْ عَقَدْتُ هَذَا الْفَصْلَ عِنْدَ طَبْعِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِبَيَانِهَا وَإِيضَاحِهَا، لِمَا عَلِمْتُ مِنْ شِدَّةِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ إِلَيْهَا، دَعْ أَمْرَ دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ أَوِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِهَا.

.إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: اشْتِمَالُهُ عَلَى النَّظْمِ الْغَرِيبِ وَالْوَزْنِ الْعَجِيبِ، وَالْأُسْلُوبِ الْمُخَالِفِ لِمَا اسْتَنْبَطَهُ الْبُلَغَاءُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَطَالِعِهِ وَفَوَاصِلِهِ وَمَقَاطِعِهِ، هَذِهِ عِبَارَتُهُمْ وَأَوْرَدُوا عَلَيْهَا شُبْهَتَيْنِ وَأَجَابُوا عَنْهُمَا، وَحَصَرُوا نَظْمَ الْكَلَامِ مَنْثُورَهُ مُرْسَلًا وَسَجْعًا، وَمَنْظُومَهُ قَصِيدًا وَرَجَزًا فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ، لَا يُمْكِنُ عَدُّ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ وَاحِدًا مِنْهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَكْبَرِ بُلَغَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَادَوْهُ اسْتِكْبَارًا، وَجَاحَدُوهُ اسْتِعْلَاءً وَاسْتِنْكَارًا، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ مِنِّي، لَا بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ هَذَا الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ لِحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لِطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لِمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، قَالَ: وَاللهِ مَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قَالَ: فَدَعْنِي أُفَكِّرْ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، يَأْثَرُهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَكَانَ هَذَا سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} الْآيَاتِ.
وَلَعَمْرِي إِنَّ مَسْأَلَةَ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ لِإِحْدَى الْكُبَرِ، وَأَعْجَبُ الْعَجَائِبِ لِمَنْ فَكَّرَ وَأَبْصَرَ، وَلَمْ يُوَفِّهَا أَحَدٌ حَقَّهَا، عَلَى كَثْرَةِ مَا بَدَءُوا وَأَعَادُوا فِيهَا، وَمَا هُوَ بِنَظْمٍ وَاحِدٍ وَلَا بِأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِائَةٌ أَوْ أَكْثَرُ: الْقُرْآنُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً مُتَفَاوِتَةً فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، مِنَ السَّبْعِ الطُّوَلِ الَّتِي تَزِيدُ السُّورَةُ فِيهِ عَلَى الْمِائَةِ وَعَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْآيَاتِ، إِلَى السُّوَرِ الْمِئِينَ، إِلَى الْوُسْطَى مِنَ الْمُفَصَّلِ، إِلَى مَا دُونَهَا مِنَ الْعَشَرَاتِ فَالْآحَادِ كَالثَّلَاثِ الْآيَاتِ فَمَا فَوْقَهَا، وَكُلُّ سُورَةٍ مِنْهَا تُقْرَأُ بِالتَّرْتِيلِ الْمُشْبِهِ لِلتَّلْحِينِ، الْمُعِينِ عَلَى الْفَهْمِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْثِيرِ، عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْفَوَاصِلِ، وَتَفَاوُتِ آيَاتِهَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ، فَمِنْهَا الْمُؤَلَّفُ مِنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْ كَلِمَتَيْنِ وَمِنْ ثَلَاثٍ، وَمِنْهَا الْمُؤَلَّفُ مِنْ سَطْرٍ أَوْ سَطْرَيْنِ أَوْ بِضْعَةِ أَسْطُرٍ، وَمِنْهَا الْمُتَّفِقُ فِي أَكْثَرِ الْفَوَاصِلِ أَوْ كُلِّهَا، وَمِنْهَا الْمُخْتَلِفُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا، وَهِيَ عَلَى مَا فِيهَا مُتَشَابِهٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهٍ فِي النَّظْمِ، مُتَشَابِهَةٌ كُلُّهَا فِي مَزْجِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ، وَبَيَانِ الْبَعْثِ وَالْمَآلِ، وَدَارِ الْأَبْرَارِ وَدَارِ الْفُجَّارِ، وَالِاعْتِبَارِ بِقَصَصِ الرُّسُلِ وَالْأَقْوَامِ، وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ أَسَالِيبَ جَمِيعِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ كَذَلِكَ، لَا يُشْبِهُ أُسْلُوبٌ مِنْهَا أُسْلُوبًا، وَلَا يَسْتَوِيَانِ مَنْظُومًا وَلَا مَنْثُورًا، فَمُجَرَّدُ اخْتِلَافِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مُعْجِزًا وَنَقُولُ: مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدَ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَوْغَلَ فِي مَهَامِهِ الْغَفْلَةِ، فَمَهْمَا تَخْتَلِفْ مَنْظُومَاتُ الشُّعَرَاءِ فَلَنْ تَعْدُوَ بُحُورَ الشِّعْرِ الْمَنْقُولَةَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالتَّوْشِيحَاتِ وَالْأَزْجَالَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْمُوَلَّدِينَ، وَمَهْمَا تَخْتَلِفْ خُطَبُ الْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ مِنَ الْكُتَّابِ وَالْمُؤَلِّفِينَ فِي الْعُلُومِ وَالشَّرَائِعِ وَالْآدَابِ فَلَنْ تَعْدُوَ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي بَدَأَنَا الْقَوْلَ بِهَا، وَلَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ وَلَا تِلْكَ نَظْمَ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَلَا أَكْثَرِهَا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ نَظْمٌ وَأُسْلُوبٌ خَاصٌّ.
فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُشْعِرَ سَمْعَكَ وَذَوْقَكَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ نَظْمِ الْكَلَامِ الْبَشَرِيِّ وَنَظْمِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، فَائْتِ بِقَارِئٍ حَسَنِ الصَّوْتِ يُسْمِعُكَ بَعْضَ أَشْعَارِ الْمُفْلِقِينَ، وَخَطَبَ الْمَصَاقِعِ الْمُفَوَّهِينَ، الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ نَغَمٍ وَتَحْسِينٍ، ثُمَّ لِيَتْلُ عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْمُخْتَلِفَةِ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ كَسُورَةِ النَّجْمِ وَسُورَةِ الْقَمَرِ وَسُورَةِ الرَّحْمَنِ وَسُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَسُورَةِ الْحَدِيدِ- مَثَلًا- ثُمَّ حَكِّمْ ذَوْقَكَ وَوِجْدَانَكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهَا فِي أَنْفُسِهَا، ثُمَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ كُلٍّ مِنْهَا وَبَيْنَ كَلَامِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ بُلَغَائِهِمْ، وَتَأْثِيرِ كُلٍّ مِنَ الْكَلَامَيْنِ فِي نَفْسِكَ بَعْدَ اخْتِلَافِ وَقْعِهِ فِي سَمْعِكَ.
بَلْ تَأَمَّلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُكَرَّرَةِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَجْلِ تَقْرِيرِهَا فِي الْأَنْفُسِ وَنَقْشِهَا فِي الْأَذْهَانِ، كَالِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَافَطِنْ لِاخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأَسَالِيبِ فِيهَا، فَمِنَ الْمُخْتَصَرِ مَا فِي سُورِ الذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالْفَجْرِ، وَمِنَ الْمُطَوَّلِ مَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ وَطَهَ، لَعَلَّكَ إِنْ تَدَبَّرْتَ هَذَا تَشْعُرْ بِالْبَوْنِ الشَّاسِعِ بَيْنَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَلَامِ الْخَالِقِ، وَتَحْكُمْ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْإِعْجَازِ حُكْمًا ضَرُورِيًّا وُجْدَانِيًّا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِكَ، وَإِنْ عَجَزْتَ عَنْ بَيَانِهِ بِقَوْلِكَ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي يُخَالِفُ بِهَا نَظْمُ الْقُرْآنِ نَظْمَ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ شِعْرٍ وَنَثْرٍ: أَنَّكَ تَرَى السُّوَرَ ذَاتَ النَّظْمِ الْخَاصِّ وَالْفَوَاصِلِ الْمُقَفَّاةِ تَأْتِي فِي بَعْضِهَا فَوَاصِلُ غَيْرُ مُقَفَّاةٍ، فَتَزِيدُهَا حُسْنًا وَجَمَالًا وَتَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ، وَتَأْتِي فِي بَعْضٍ آخَرَ آيَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ آيِهَا فِي فَوَاصِلِهَا وَزْنًا وَقَافِيَةً، فَتَرْفَعُ قَدْرَهَا وَتَكْسُوهَا جَلَالَةً وَتُكْسِبُهَا رَوْعَةً وَعَظَمَةً، وَتُجَدِّدُ مِنْ نَشَاطِ الْقَارِئِ وَتُرْهِفُ مَنْ سَمْعِ الْمُسْتَمِعِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْخُطَبَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ أَنْ يُحَاكُوا هَذَا النَّوْعَ مِنْ مَحَاسِنِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَةِ السُّورَةِ فِي جُمْلَتِهَا، أَوِ الصُّعُودِ إِلَى أُفُقِ بَلَاغَتِهَا، وَمِنْ أَعْجَبِ هَذِهِ السُّوَرِ أَوَائِلُ سُوَرِ الْمُفَصَّلِ بَلِ الْمُفَصَّلُ كُلُّهُ. قَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْمَعْقُولُ أَنْ يُحْدِثَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي الْبَيَانِ فَوْقَ مَا أَحْدَثَهُ بِدَرَجَاتٍ.

.إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ:

الْوَجْهُ الثَّانِي: بَلَاغَتُهُ الَّتِي تَقَاصَرَتْ عَنْهَا بَلَاغَةُ سَائِرِ الْبُلَغَاءِ قَبْلَهُ وَفِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ بَعْضَ الشُّبَهِ عَلَى كَوْنِ بَلَاغَةِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْ قِصَارِ سُورِهِ بَلَغَتْ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَالْقَائِلُونَ بِهِ لَا يَحْصُرُونَ إِعْجَازَ كُلِّ سُورَةٍ فِيهِ، وَيَتَحَقَّقُ التَّحَدِّي عِنْدَهُمْ بِإِعْجَازِ بَعْضِ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ بِغَيْرِهِ، كَأَخْبَارِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ الَّتِي هِيَ أَقْصَرُ سُوَرِهِ، عَلَى أَنَّ مُسَيْلِمَةَ تَصَدَّى لِمُعَارَضَتِهَا بِمُحَاكَاةِ فَوَاصِلِهَا، فَجَاءَ بِخِزْيٍ كَانَ حُجَّةً عَلَى عَجْزِهِ وَصِحَّةِ إِعْجَازِهَا.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْقَهُ سِرَّ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ وَيُمَارِي فِيمَا كَتَبَ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ مِنْ قَوَاعِدِهَا، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْإِحَالَةَ عَلَى الذَّوْقِ فِيهَا إِحَالَةٌ عَلَى مَجْهُولٍ، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَدْلُولٌ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ الْمَعْنَوِيَّ كَالْحِسِّيِّ خَاصٌّ بِصَاحِبِهِ.
مَنْ ذَاقَ عَرَفَ وَسَبَبُ هَذَا جَهْلُهُمُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْفُصْحَى نَفْسَهَا، فَقَدْ مَرَّتِ الْقُرُونُ فِي إِثْرِ الْقُرُونِ عَلَى تَرْكِ النَّاسِ لِمُدَارَسَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، وَاسْتِظْهَارِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، وَاقْتِصَارِ مَدَارِسِ الْأَمْصَارِ عَلَى قِرَاءَةِ كُتُبِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، وَهِيَ أَدْنَى مَا وُضِعَ فِي فُنُونِهَا فَصَاحَةً وَبَيَانًا، وَأَشَدُّهَا عُجْمَةً وَتَعْقِيدًا، وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي اقْتَصَرَ مُؤَلِّفُوهَا عَلَى سَرْدِ الْقَوَاعِدِ بِعِبَارَةٍ فَنِّيَّةٍ دَقِيقَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ فَصَاحَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَنْ بَيَانِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْوَاضِعِينَ لِهَذِهِ الْفُنُونِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْقَرْنِ الْخَامِسِ، كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ جِنِّيٍّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ، حَتَّى صَارَ أَوْسَعُ النَّاسِ عِلْمًا بِهَذِهِ الْفُنُونِ أَجْهَلَ قُرَّاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَا، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ مِنْهَا، بَلْهُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، فَمَنْ يَقْرَأْ مِنْ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ إِلَّا مِثْلَ السَّمَرْقَنْدِيَّةِ وَشَرْحَيْ جَوْهَرِ الْفُنُونِ وعُقُودِ الْجُمَانِ فَشَرْحَيِ التَّلْخِيصِ لِلسَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَحَوَاشِيهَمَا لَا يُرْجَى أَنْ يَذُوقَ لِلْبَلَاغَةِ طَعْمًا، أَوْ يُقِيمَ لِلْبَيَانِ وَزْنًا، فَأَنَّى يَهْتَدِي إِلَى الْإِعْجَازِ بِهِمَا سَبِيلًا، أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؟ وَإِنَّمَا يُرْجَى هَذَا الذَّوْقُ لِمَنْ يَقْرَأُ أَسْرَارَ الْبَلَاغَةِ وَدَلَائِلَ الْإِعْجَازِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، فَإِنَّهُمَا هُمَا الْكِتَابَانِ اللَّذَانِ يُحِيلَانِكَ فِي قَوَانِينِ الْبَلَاغَةِ عَلَى وِجْدَانِكَ، وَمَا تَجِدُ مِنْ أَثَرِ الْكَلَامِ فِي قَلْبِكَ وَجَنَانِكَ، فَتَرَى أَنَّ عِلْمَيِ الْبَيَانِ شُعْبَةٌ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُمَا يَشْهَدُ لَهَا الشُّعُورُ وَالْحِسُّ، وَلَكِنْ لابد مَعَ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مِنْ مَنْظُومِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمَنْثُورِهِ، وَاسْتِظْهَارِ بَعْضِهِ مَعَ فَهْمِهِ، كَمَا قَرَّرَ حَكِيمُنَا ابْنُ خَلْدُونَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عِلْمِ الْبَيَانِ مِنْ مُقَدِّمَتِهِ.
فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ مَلَكَةِ الْبَلَاغَةِ فَهْمًا وَأَدَاءً، وَالْقَوَانِينُ الْمَوْضُوعَةُ لَهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَنْبَطًا مِنْهَا، وَقَدْ عُكِسَتِ الْقَضِيَّةُ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى حَتَّى سَاغَ لِمُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ أَنْ يَقُولَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي تُقْرَأُ فِي مَدْرَسَةِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ وَأَمْثَالِهَا: إِنَّ قَوَاعِدَهَا تَقْلِيدِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ بِهَا تَفَاضُلُ الْكَلَامِ، إِذْ يُمْكِنُ حَمْلُ كُلِّ كَلَامٍ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ مُزَاوَلَةً لَهَا أَضْعَفَهُمْ بَيَانًا، وَأَشَدَّهُمْ عِيًّا وَفَهَاهَةً.
فَمَعْرِفَةُ مَكَانَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَحْكُمُهَا مِنَ الْجِهَةِ الْفَنِّيَّةِ وَالذَّوْقِيَّةِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ حَظًّا عَظِيمًا مِنْ مُخْتَارِ كَلَامِ الْبُلَغَاءِ الْمَنْظُومِ وَالْمَنْثُورِ، مِنْ مُرْسَلٍ وَمَسْجُوعٍ، حَتَّى صَارَ مَلَكَةً لَهُ وَذَوْقًا، وَاسْتَعَانَ عَلَى فَهْمِ فَلْسَفَتِهِ بِمِثْلِ كِتَابَيْ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَالصِّنَاعَتَيْنِ لِأَبِي هِلَالٍ الْعَسْكَرِيِّ، وَالْخَصَائِصِ لِابْنِ جِنِّيٍّ، وَأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَمُغْنِي اللَّبِيبِ لِابْنِ هِشَامٍ، هَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْبَلَاغَةِ وَنَتِيجَتُهَا الْمَلَكَةُ وَلَهَا غَايَةٌ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا مِنَ التَّارِيخِ، وَهِيَ مَا كَانَ لِلْقُرْآنِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ فِيمَنْ حَذَقَهَا مِنَ الْأَعَاجِمِ أَيْضًا.
الْحَدُّ الصَّحِيحُ لِلْبَلَاغَةِ فِي الْكَلَامِ هِيَ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَا يُرِيدُ مِنْ نَفْسِ السَّامِعِ بِإِصَابَةِ مَوْضِعِ الْإِقْنَاعِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالْوِجْدَانِ مِنَ النَّفْسِ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِالْقَلْبِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ أَنَّ كَلَامًا قَارَبَ الْقُرْآنَ فِي قُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، فَهُوَ الَّذِي قَلَبَ طِبَاعَ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَحَوَّلَهَا عَنْ عَقَائِدِهَا وَتَقَالِيدِهَا، وَصَرَفَهَا عَنْ عَادَاتِهَا وَعَدَاوَاتِهَا، وَصَدَفَ بِهَا عَنْ أَثَرَتِهَا وَثَارَاتِهَا، وَبَدَّلَهَا بِأُمِّيَّتِهَا حِكْمَةً وَعِلْمًا، وَبِجَاهِلِيَّتِهَا أَدَبًا رَائِعًا وَحِلْمًا، وَأَلَّفَ مِنْ قَبَائِلِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ وَاحِدَةً سَادَتِ الْعَالَمَ بِعَقَائِدِهَا وَفَضَائِلِهَا وَعَدْلِهَا وَحَضَارَتِهَا، وَعُلُومِهَا وَفُنُونِهَا.
اهْتَدَى إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ إِعْجَازِ بَعْضِ حُكَمَاءِ أُورُبَّةَ مُسْتَنْبِطًا لَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَايَةِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَّنَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يُؤْتَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنَ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مُوَلَّهًا مُدَلَّهًا، خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا، فَيَفْعَلُ فِي جَذْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَوْقَ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ.
وَقَدْ رَأَيْنَا وَرُوِّيْنَا عَنْ بَعْضِ أُدَبَاءِ هَذِهِ اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ إِلَى بَعْضِ بُيُوتِ مَعَارِفِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَيُمَتِّعُوا ذَوْقَهُمُ الْعَرَبِيَّ وَشُعُورَهُمُ الرُّوحَانِيَّ الْأَدَبِيَّ بِسَمَاعِ آيَاتِهِ الْمُعْجِزَةِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِنْصَافِ مِنْهُمْ بِهَذَا الْإِعْجَازِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، وَالْبَلَاغَةُ يَغُوصُ تَأْثِيرُهَا فِي أَعْمَاقِ الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي آخَرِ هَذَا الْبَحْثِ.
وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُورِدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لَخَرَجْتُ عَنِ الِاخْتِصَارِ الَّذِي الْتَزَمْتُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى عَجَائِبِهَا فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى الدِّقَّةُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِهِ، وَتَحْدِيدُ الْحَقَائِقِ فِي جُمَلِهِ، وَمَزْجُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي أُسْلُوبِهِ، وَلُطْفُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ آيَاتِهِ وَبَيْنَ سُوَرِهِ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا ضُرُوبُ إِيجَازِهِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا، وَكَثْرَةُ تَكْرَارِهِ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِعِبَارَاتٍ لَا يَمَلَّهَا قَارِئٌ وَلَا سَامِعٌ، وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا. وَمِنَ الْعَجَبِ غَفْلَةُ أَكْثَرِ طُلَّابِ الْبَلَاغَةِ عَنْهَا.

.إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِمَا فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ:

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ مِنْ مَاضٍ، كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهِ، وَمِنْ حَاضِرٍ فِي عَصْرِ تَنْزِيلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ} [30: 1- 5] الآية، وَفِيهَا خَبَرَانِ عَنِ الْغَيْبِ ظَهَرَ صِدْقُهُمَا بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ الْآيَةِ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه رَاهَنَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ فَرَبِحَ الرِّهَانَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [48: 15] الآية، وَقَوْلِهِ: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [48: 16] وَقَوْلِهِ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [48: 27] وَهَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَفِي غَيْرِهَا أَيْضًا، وَفِي سُورَةِ التَّوْبَةِ أَمْثَالُهَا مِنَ الْأَخْبَارِ عَمَّا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ وَعَمَّا سَيَقُولُونَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَمِنْ أَظْهَرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَعْدُهُ تَعَالَى بِحِفْظِ الْقُرْآنِ مِنَ النِّسْيَانِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [15: 9] وَوَعَدُهُ بِحِفْظِ الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [5: 67] دَعْ مَا تَكَرَّرَ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ مِنْ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ وَعِيدِهِ لِلْكَافِرِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [24: 55] وَكَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا يُنْجِزْ لَنَا وَعْدَهُ هَذَا كُلَّهُ، بَلْ بَعْضَهُ، وَلابد مِنْ إِتْمَامِهِ بِسِيَادَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ حَتَّى أُورُبَّةَ الْمُعَادِيَةَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [6: 65] الآية، أَنَّهُ قَالَ إِنَّهَا نَبَأٌ غَيْبِيٌّ عَمَّنْ يَأْتِي بَعْدُ بَلْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا، وَتَجِدُ بَيَانَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْهُ ظُهُورُ مِصْدَاقِهَا فِي حَرْبِ الْأُمَمِ الْكُبْرَى الْأَخِيرَةِ.
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ بِالْغَيْبِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، وَلَا يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهَا بِمَا يَصِحُّ بِالْمُصَادَفَةِ أَوِ الْقَرَائِنِ أَحْيَانًا مِنْ أَقْوَالِ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، فَإِنَّ كَذِبَ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ صِدْقِهِمْ- إِنْ صَحَّ تَسْمِيَةُ مَا يَتَّفِقُ لَهُمْ صِدْقًا مِنْهُمْ- وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يُحْصُونَ عَلَيْهِمْ أَقْوَالَهُمْ وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْ حِيَلِهِمْ وَتَلْبِيسَاتِهِمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ إِذَا اقْتَضَتْهُ الْحَالُ، كَتَشْنِيعِ أَبِي تَمَّامٍ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ عَمُورِيَةَ لَا تُفْتَحُ إِلَّا عِنْدَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ، فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي مَطْلَعُهَا:
السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ

وَيَقُولُ فِيهَا:
سَبْعُونَ أَلْفًا كَآسَادِ الشَّرَى نَضِجَتْ ** جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التِّينِ وَالْعِنَبِ

وَقَدْ قُتِلَ فِي عَصْرِنَا وَزِيرٌ مِنْ وُزَرَاءِ مِصْرَ، فَوَجَدَ النَّاسُ فِي تَقْوِيمِ نَتِيجَةِ تِلْكَ السَّنَةِ لِأَحَدِ الْمُنَجِّمِينَ نَبَأً عَنْ قَتْلِهِ، وَمِنْ شَأْنِ هَذَا التَّقْوِيمِ أَنْ يَكُونَ طُبِعَ قُبَيْلَ دُخُولِ السَّنَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا، وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ فِي ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا التَّقْوِيمِ قَدْ طَبَعَ الْوَرَقَةَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا هَذَا النَّبَأُ بَعْدَ وُقُوعِ الْقَتْلِ، وَوَضَعَهَا فِيهِ مَوْضِعَ وَرَقَةٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا مِنْهُ فَأَحْرَقَهَا، وَلَكِنْ كَانَ قَدْ بِيعَ بَعْضُ النُّسَخِ مِنَ التَّقْوِيمِ فَوَجَدَ الْمُدَقِّقُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بَعْضَهَا، عَلَى أَنَّ دَأْبَ هَؤُلَاءِ الْمُنَجِّمِينَ أَنْ يُعَبِّرُوا عَمَّا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ أَنْبَاءِ الْمُسْتَقْبَلِ بِآرَائِهِمْ وَبِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَأَخْبَارِ الصُّحُفِ الدَّوْرِيَّةِ بِرُمُوزٍ وَكِنَايَاتٍ وَإِشَارَاتٍ يُفَسِّرُونَ بِهَا الْوَقَائِعَ بِأَهْوَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوهَا تَحْتَمِلُ شَيْئًا مِنْهَا كَتَمُوهَا، وَتَعَذَّرَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَكْذِيبُهُمْ فِيهَا، وَأَمَّا مَا يَعْرِفُهُ الْفَلَكِيُّونَ بِالْحِسَابِ كَالْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ وَمَطَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَمَغَارِبِهَا، فَلَيْسَ مِنَ التَّنْجِيمِ وَلَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فِي شَيْءٍ.